اجرة 25 يناير
اكتمل النصاب..اثنان بجوار السائق..وثلاثة بالمقعد الذى يليه ..وثلاثة
بالمقعد الذى يليه..وايضا ثلاثة بالمقعد الذى يليه ..واخيرا ثلاثة بالمقعد
الاخير..انا..وشاب بجوارى ..وفتاة بجوارالنافذة من الناحية الاخرى..ضغط
الرجل الذى يجلس بجوار مقعد السائق على (الكلاكس) مستدعيا السائق الذى ما
كان قد فرغ بعد من ارتشاف شاى (الاصطباحة) بالقهوة المقابلة ..قام متلكئا
ممتعضا..اقترب من السيارة ناظرا بداخلها متمما على العدد (لسه ناقص واحد)
رد الرجل الذى ضغط (الكلاكس) "ليه يا اسطى ما هى كملت ".."ناقص واحد
ورا"..رد الشاب الذى بجوارى "هتجيبه فين يا اسطى داحنا راكبين
بالعافية..وبعدين راعى ان معانا آنسة"..قالها ناظرا للفتاة نظرة "اترين
اعمل على الا يضايقك احد"..التقطت الفتاة الاشارة فابتسمت ابتسامة.."شكرا
كم انت لطيف "..قال السائق محتدا .."شوف يا استاذ الكنبة اللى ورا اربعة
واللى مش عاجبه ينزل ويستنى اللى بعدها"..رد الشاب على الحدة بحدة مدعومة
بابتسامة الفتاة الممتنة قائلا"انا لو نزلت يا اسطى هجيبلك الظابط من القسم
وهو يتصرف معاك"..قال السائق بغضب ساخر "شالله يا قسم ..كان زمان وجبر
..البلد مفيهاش ريس يا اخويا ..واى ظابط دلوقت يقولى فين رخصتك ما عنديش
الا الكوريك فى الدواسة ..اخبطه بيه فى وشه"..كاد الامر ان يتطور ولأنى كنت
مصاب بصداع ليلة ساهرة مرهقة فقلت تداركا للامر" خلاص يا اسطى ..الرابع
عندى انا بس اطلع"..ابتسمت لى الفتاة نفس ابتسامة"شكرا لك ..كم انت
لطيف"..اشحت بوجهى ناحية النافذة اشاحة "لست لطيفا لكنى مصاب بالصداع
والدوار ولا انقصكم"..كان يجلس بالمقعد الذى امامى رجل بجلباب ريفى ورجل
ملتح بجلباب ابيض قصير و(طاقية بيضاء)..وشاب يصغرنى بقليل واضح من كتب
يحملها على قدميه انه جامعى ومتجه الى جامعته ..ما ان تحركت السيارة حتى
اخرج الشاب جواله وقام بتشغيل اغنية فيروز الحالمة (اعطنى الناى
وغنى)..لاحظت تجهم وجه الرجل الملتحى ورأيت فكه من الخلف بدأ يتحرك فخمنت
انها كلمات استغفار رغم ان الشاب كان صوت جواله منخفضا ..لحظات ووجدت الرجل
يميل ناحية الشاب قائلا فى همس وصل مسامعى.."معاك سورة يس..جزء عم للشيخ
الطبلاوى ..تبارك..نسمعه كده خلى ربنا يستر طريقنا بدل اللغو ..انت مش عارف
ان الغناء مزمار الشيطان؟!"..نظر له الفتى قائلا بسخرية جادة.."قصدك يعنى
يا شيخ ان فيروز لما بتقول اعطنى الناى وغنى انها بتقول كده للشيطان "..ضج
من سمع العبارة بالضحك وكنت انا اولهم..قال الرجل ذو الجلباب الريفى
وهويغالب ضحكه للشاب .."عيب يا ابنى ..عمك الشيخ قصده مصلحتك"..لم يرد
الشاب ..اما الرجل ذو اللحية فعلى ما يبدو انه قد فاجأته عبارة الشاب فظل
وجهه متجهما للحظات حتى وصلت فيروز لمقطع.."هل شربت الفجر خمرا فى كؤوس من
اثير"..فكأنه وجد ضالته..فانفجر فى الشاب غاضبا .."استغفر الله العظيم
..بقى ده مش كفر..بدل ما تقوم الفجر تصلى ركعتين الفرض..تقوم تشربه خمر فى
كاس ..بقى ده كلام يا جماعة"..ظننت انه بعبارته يرد على عبارة الشاب
الساخرة ..لكن تجهم وجهه وطريقته الجادة فى الكلام جعلانى اتأكد انه يتحدث
بجدية فانطلقت منى ضحكة"الى هذا الحد يوجد اناس ضيقى الافق"..نظر الرجل
خلفه مستنكرا باحثا عن مصدر الضحكة محدقا فى وجهى..فقلت محاولا كتم ضحكتى
"معلش افتكرت نكته" فعاد برأسه للنظر أمامه غير مقتنع بتبريرى..بعدها تدخل
أحد العقلاء من المقاعد الامامية _التى تحوى دائما العقلاء حتى ولو فى
سيارة ميكروباص !!_ قائلا.."معلهش يا ابنى يا توطى يا تقفل رايحين اشغالنا
ودماغنا مش ناقصة صداع"..وافق جمع من الجالسين ..اسكت الشاب صوت فيروز
ناظرا نظرة.."فيروزصداع؟!" واستمرت السيارة فى طريقها.
هل ما اراه حقيقى..ام انى اتوهم..يد الشاب الذى بجوارى تقترب من ساق الفتاة
حد الملامسة..بل إنها فعلا ملامسة....بل ان الامر يتطور ويده تزحف صاعدة
..والفتاة متشاغلة بالنظر من النافذة مصطنعة عدم الملاحظة..أو الشعور..أو
فعلا لا تشعر..أأصمت ؟..ام أنهر الشاب ..مما يؤدى لإحداث جلبة ..تقف على
إثرها السيارة وينتهى الامر بحفلة ضرب مبرح للشاب.. ثم ما أدرانى إن نهرته
ألا تفاجئنى الفتاة بالقول ان الشاب لا يضايقها وأنى اتوهم..فتجعلنى فى نصف
ملابسى أمام الجميع.. وليس من المستبعد ساعتها ان تصبح حفلة الضرب ساعتها
على شرفى..إذن أصمت ..لكن كيف اصمت ..مشهد الصمت يتحول تلقائيا فى عقلى
لمشهد سينمائى من فيلم (القاهرة ثلاثين)..مشهد القرون هذا حينما جلس (محجوب
عبد الدايم)ليعقد قرانه كستار لعلاقة آثمة بين البيك وفتاة من المفترض
انها بموجب هذا العقد زوجته..إذن ماذ افعل؟..خاصة ان الشاب مضى صاعدا
..والفتاة بدأت فى التجاوب..فلأعلقها فى رقبة الشيخ إذن..ملت عليه برأسى
للأمام ناقرا برفق على كتفه..نظر الى بارتياب واثر ضحكتى العالية لا زال
يساوره..همست فى اذنه.."بص يا شيخ وراك..فى معصية بترتكب"..انهيتها وعدت
ادراجى..بعين ثعلبية..بدأ الشيخ يلقى بنظرات رادارية استطلاعية..وعندما
تأكد ان الاخبارية صحيحة..استدار بكامل جسده للخلف..وانفجر فى الشاب.."انت
بتعمل ايه يا رقيع..يا عديم الرباية..وانتى يا يا مفعوصة ..سايباه كده
براحته..فين الفضيلة ..خلااص بقينا بهايم..حتى فى الميكروباصات..استغفر
الله العظيم..انا لله وانا ايه راجعون..دى من علامات الساعة"..بعد عباراته
الصارخة..كان رد الفعل كالتالى..كل من فى العربة عدا الشاب والفتاة قد
نظروا الى حيث اتجاه صوت الشيخ..اماالشاب فقد اعاد يده سريعا الى
جسده..والفتاة ظلت محدقة لحظات حتى استفاقت من هول المفاجأة والفضيحة
المنتظرة..واستجمعت شتات تماسكها واطلقته فى عبارة"
بتزعق ليه يا راجل انت..وايه سايباه دى ..انت قليل الادب صحيح..الاستاذ
قاعد باحترامه ومفيش مضايقة منه..وبعدين انا كنت اشتكيت لك؟!..لم نفسك وبص
قدامك شيخ عايب صحيح"..
كانت العبارات التالية لذلك تأنيب للشيخ على تسرعه ورمى الغافلات
بالباطل..فاعتذر الشيخ للجمع واعتذر للفتاة بأشد عبارات الاسف ثم التفت الى
محدقا تحديقة....لم استطع قراءة تحديقه فعندما شعرت به يلتفت ناحيتى
تشاغلت بالنظر من النافذة وكأنى لا اجلس بالسيارة..لكنى سمعت عبارة.."يا
فاسق ..كيف ترمى الغافلات بالباطل..انت عقوبتك شرعا الجلد..هو ده اللى
وشوشنى فى ودنى..وقالى ان فى شئ مش ولابد بين الانسة المحترمة والشاب اللى
جنبها"..فاجأتنى عبارته.. فألجمتنى عن النطق..
الشاب التفت الى التفاتة "يا لك من واش حقير"..ونظرت الفتاة نظرة.."اهذا جزاء لطفى معك..الا تتذكر ابتسامة..شكرا لك كم انت لطيف؟"..
ثم اقشعرت شفتاها علامة على الامتعاض..انقذنى من كل ذلك عبارة الشاب الذى
اجبره الشيخ على اسكات فيروز.."ما خلاص يا شيخ كان سوء تفاهم وخلص..يا اما
تسامحه ..يا اما تقيم عليه الحد وتخلصنا"..اثارت عبارته الضحك مما ادى
لتلطيف الاجواء..واحتقان وجه الشيخ اكثر..والتزام يد الشاب جانبه..والتزام
ساق الفتاة اختها بلا انفراجة ميل نحو قدم الشاب وذلك احترازا من فضح
افعالهما من قبل واش يجلس بجوارهما..يعلنها شيخ بجلباب قصير و(طاقية)..قام
الشاب الذى بجوار الشيخ بإعادة تشغيل اغنية فيروز متشجعا..بإنكسارة الشيخ
الاخيرة امام الفتاة..نظر له الشيخ شذرا ثم اخرج جواله من جيب جلبابه
إخراجة"ليس وحدك من لديه جوال بـإم بى ثرى..وبلوتوث ايضا!!"..شغل سورة مريم
للشيخ مصطفى اسماعيل..ليجبر الفتى على اغلاق صوت فيروز..لكن الفتى ادعى
البله..فلم يوقف صوت الاغنية..تدخل الرجل صاحب الجلباب القروى قائلا للشاب"
انت مسلم يا ابنى"..اجاب الشاب."وموحد بالله الحمد لله"..طب ما تحترم كلام
ربنا وتقفل الاغنية".."يا حاج انا لو عارف انه عايز يسمع قرآن انا هقفل من
نفسى ..انما الشيخ واخدها عند ولوى دراع ..لأنه لو عايز يسمعنا كلام ربنا
كان سمعنا من اول ما اتحركت العربية"..ذكرنى تفسير الشاب لموقف الشيخ..
بحيلة معاوية بن ابى سفيان..فى حربه مع على كرم الله وجهه..عندما وجد نفسه
على وشك الهزيمة..فرفع المصاحف على اسنة الرماح ..مدعيا الاحتكام لكتاب
الله..فتراجع عن مواصلة الحرب..فاغتيل..وصارت الخلافة الراشدة ملكا
عضوضا..ورغم ذلك ضايقنى ان يزاحم صوت الفن صوت السماء الاجل
والاعلى..فتدخلت لإقناع الفتى بإغلاق فيروز..ففيروز ذاتها لو اخبروها ان
صوتها سيزاحم ترتيل مصطفى اسماعيل لكلام الله..لأعتزلت ..لكن قبل ان افعل
كان السائق قد ضايقته الجلبة فنظر الى الخلف آمرا بعنجهية سائقى
الميكروباص.."بقول ايه انا مش ناقص صداع ..اقفل يا استاذ..وانت يا شيخ صدق
واقفل..يا اما اركن على جنب وتنزلوا انتوا الاتنين!!"..صدع الشاب
للأمر..فالطريق صحراويا ولا توجد حكومة وان انزله السائق قد يتوه ..اما
الشيخ فقد ارضاه عدم خروجه مهزوما هذه المرة..فأغلق صوت مصطفى اسماعيل..بعد
هنيهة..قام السائق بتشغيل (الكاسيت) الخاص بالسيارة..فانطلق صوت المطرب
الشعبى قائلا."انا شارب سيجارة بنى "..فنظر الشاب للشيخ قائلا.."مش عاجباك
فيروز تشرب الفجر فى كاس يا شيخ..اهى قلبت محششة!!"..ضج كل من فى السيارة
بالضحك..حتى الشيخ..والسائق.
وصلت السيارة مقصدها..وتفرق الجمع كل لمقصده..ووقفت انا أتأمل
السيارة..فمكان لوحة الارقام المنزوعة بفعل غياب الكمائن المرورية..استقرت
لوحة ورقية..مكتوب عليها "م ص ر\25\ي ن اي ر.
ما لهذا ابدا قامت الثورة